بدأ العمل في ستوديو بعلبك بدايةَ عام ١٩٦٣ في مبنى حجريٍّ أبيضَ كبير محاطٍ بأشجار الصنوبر في سنّ الفيل. وهو الموقع عينُه الذي كانت تعمل فيه الشركة اللبنانية للتسجيلات في الخمسينيات. كان هدفُ الشركة المدرَج في دليل الشركات اللبنانية المساهمة لعام ١٩٦٥ «إنتاجَ الأفلام الطويلة والقصيرة والبرامج التلفزيونيّة والبرامج الإذاعيّة والإعلانات التجاريّة والتسجيلات الموسيقيّة وغيرها». ازدهر ستوديو بعلبك مع ازدهار لبنان وريادة الفنِّ فيه، ونشط في عالم تقاطعت فيه الأعمال التجاريّة والفنون. وبات ستوديو بعلبك لعقود من الزمن مصدرًا للعديد من الإنتاجات المرئيّة والمسموعة أقبلت عليه جموعٌ من لبنان وبلدان عربية أخرى مثل سوريا والعراق والكويت والمملكة العربية السعودية. وتوافد إليه من كلِّ حدبٍ وصوبٍ مخرِجون ومنتِجون ومعِدّون لأفلام تجاريّة ووثائقيّة وروائيّة، ناهيك بمطربين وفنّاني الدوبلاج، سعيًا للتسجيل وتجربة معدّاته ومختبراته.
ورغم أنَّ ستوديو بعلبك لعب دورًا محوّريًّا في التاريخ الثقافي للبنان والمنطقة، إلّا أنّ الشركة توقَّفت عن العمل، وآل مصير المبنى للهدم أوائلَ عام ٢٠١٠. سعَت حينها أمم للتوثيق والأبحاث، المكرَّسة للأرشفة بهدف الحفاظ على ذاكرة لبنان وتوثيقها، إلى إنقاذ ما تبقّى من شرائط الأفلام والموادّ المكتوبة. وهي موادٌّ قد تضرَّرت بفعل الزمن والحرب الأهلية، فحُرق ما حرق ونهب ما نُهب، ممّا يجعل تقييم مقدار ما فُقد مستحيلًا.
محفوظات ستوديو بعلبك لدى أمم للتوثيق والأبحاث
عملت أمم للتوثيق والأبحاث على مدار الأعوام الثلاثة عشرة الفائتة على حفظِ الوثائق الورقيّة وشرائط الأفلام المتبقّية، فعالجتها ونظَّمت أعدادًا كبيرة منها.
- المحفوظات الورقيّة
تتضمَّن المحفوظات الورقيّة الموادّ التالية:
● ملفّات إدارية تعود إلى ستينيّات وأوائل سبعينيّات القرن المنصرم، وتتضمّن عددًا كبيرًا من المجلّدات، بعضها يتعلَّق بالمحاسبة والمسائل الماليّة، وبعضها بمورِدي ستوديو بعلبك؛ كما تتضمّن مجلّدات مخصّصة لأفلام ١٦ و٣٥ مم، وأخرى لمختبرات فراناي تيراج سينماتوغرافيك (Laboratoires Franay Tirages Cinématographiques LTC) في سان كلو في فرنسا.
● ملفّات مخصّصة لإنتاجات سينمائيّة بعَينها، يحمل غلافُ كلٍّ منها اسمَ الفيلم والمنتِج أو المخرج وسنة الإنتاج. تتضمّن المجموعة أفلامًا شهيرة أُنتِجت في الستينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي وباتت جزءًا من الذاكرة الجماعية في معظم العالم العربي. بعض هذه الملفّات يتكوّن من عشرات الصفحات بينما تحوي أخرى أكثرَ من مئة وثيقة. منها لا يعطي سوى فكرة عامّة عن تبادلاتٍ محدودةٍ مع المعامل الفرنسيّة بغالبها، في حين أنَّ ملفّات أخرى تمكِّن الزائرَ من تشكيل رؤية مفصَّلة عن مسار الإنتاج، بما فيه من نوادر وتحدِّيات وشؤون مالية.
●ملفّات الموظفين تتضمّن معلوماتٍ عن إدارة الشركة وعن المسارات المهنيّة الفرديّة فيها، وفي بعض الأحيان معلوماتٍ ثمينة عن سيَر شخصيّة وعائليّة. ثمّة ملفّاتٌ مليئةٌ بالفواتير والنصوص الإداريّة ومرفقةٌ غالبًا بتعليقاتٍ مكتوبة بخطِّ اليد. كمٌّ يُعطي نظرةً وافية عن آليّة إدارة أحد أكثر استوديوهات الصوت ومعامل معالجة الأفلام نجاحًا وتقدُّمًا في المنطقة، وعن الشخصيات الفذّة التي حلمت باستوديو بعلبك وبنَته وعملت فيه.
- محفوظات الأفلام
عملنا بالشراكة مع معهد أرسنال ـ معهد فنون الأفلام والفيديو في برلين ـ، على مشروع رقمنةِ شرائط الأفلام والملفّات الورقيّة، بهدف إتاحة هذه الموادّ لأغراض البحث مستقبلًا. وهو مشروع شامل حصل على تمويلٍ من برنامج التراث الثقافيّ التابع لوزارة الخارجية الألمانية في عامَي ٢٠٢٢ و٢٠٢٣.
تتكوّن الموادّ الفيلميّة التي بمعظمِها صامتةٌ وبالأبيض والأسود من أجزاءٍ من النشرات الإخباريّة والإعلانات التجاريّة والمقاطع الدعائيّة وبعض الأفلام الروائيّة الطويلة. تقدِّم بمجملها مزيجًا ساحرًا من اللقطات عن لبنان ما قبل الحرب في الستينيّات والسبعينيّات. بعد أن تمَّت رقمنةُ ومعالجةُ هذه الموادّ التي كانت مهدّدة بالتَّلف، تمكّنت كلٌّ من أمم للتوثيق والأبحاث وأرسنال من ترتيبِ أعمال المنتِجين والمخرِجين، المعروفين منهم والمغمورين، والمحافظةِ على هذا المزيج المتناقض من إرث الحداثة والتقاليد والذي يضمُّ، فيما يضمُّه، حفلاتِ زفاف ومَسيراتٍ احتجاجيّة، وآثارًا قديمة وجلسات برلمانيّة.